روائع مختارة | قطوف إيمانية | نور من السنة | لطائف إسنادية وفوائد متنية من حديث: «أينا لم يلبس إيمانه بظلم»

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > نور من السنة > لطائف إسنادية وفوائد متنية من حديث: «أينا لم يلبس إيمانه بظلم»


  لطائف إسنادية وفوائد متنية من حديث: «أينا لم يلبس إيمانه بظلم»
     عدد مرات المشاهدة: 2806        عدد مرات الإرسال: 0

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عن عبدِالله بن مسعودٍ رضي الله عنه: قال لمَّا نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على أصحاب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقالوا: أيُّنا لَم يلبس إيمانه بِظُلمٍ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنه ليس بذلك، ألاَ تسمعون إلى قول لُقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؟».

أخرجه البخاريُّ (3181، 3245، 3246، 4353، 4498، 6520، 6538) من طرقٍ عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه ومسلمٌ (124)، وأحمدُ (3589 و4031 و4240)، والترمذيُّ (3067) والنَّسائي في الكُبْرى (6341) وغيرهم من طرُقٍ عن الأعمش به.

لطائف الإسناد:

1- في هذا الإسناد روايةُ ثلاثةٍ من التابعين بعضهم عن بعض، وهم: الأعمش عن شيخه إبراهيم بن يزيد النَّخعيِّ، عن خاله علقمةَ بنِ قيسٍ النَّخعي، والثلاثة كوفيُّون فقهاء، وعبدالله الصحابيُّ هو ابن مسعود.

2- وهذا السَّند أحَدُ ما قيل فيه: إنَّه أصحُّ الأسانيد.

3- الأعمش موصوفٌ بالتَّدليس، لكن البخاري أخرجَ الحديث من رواية حفصِ بن غِيَاث عنه، وحَفصٌ لا يَروي إلاَّ مسموعَ الأعمش [1].

فائدة عزيزة جدًّا: أخرج البخاريُّ هذا الحديثَ من طريقين؛ الطَّريق الأول هو المذكور أعلاه، والثاني قال فيه: حدَّثني بِشْر، حدثني محمَّد، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه نحوَه.

ومحمَّد في هذا السند هو ابنُ جعفرٍ المعروفُ بـغُنْدر، وهو أثبَتُ الناس في شُعْبة؛ ولهذا أخرج البخاريُّ- رحمه الله- روايته مع نزولها، بالرَّغم من أنه أخرج الحديث الأول عاليًا من طريق شيخه أبي الوليد.

فهنا البخاريُّ- رحمه الله- جَمعَ بين علُوِّ السَّند، وهو أعلى مقاصد المُحدِّثين، وبين قوَّة الإسناد النازل.

ولفظ محمَّد بن جعفرٍ: أيُّنا لَم يظلم نفسَه؟ ، وأما لفظ أبي الوليد فهو: أيُّنا لم يَلْبِس إيمانَه بِظُلم؟ حيث ساقه البخاريُّ في تفسير سورة لقمان.

وهذا دليلٌ على أنَّ البخاري لا يقدِّم الإسناد العالي دائمًا؛ بل قد يؤخِّر العالي ويقدِّم النازل، ويكون المؤخَّر دائمًا هو صاحب اللَّفظ [2].

شرح الحديث:

فيه بيانُ أنَّ الشِّرك يَنْقسم إلى كبيرٍ وصغير، كما أنَّ دركات الظُّلم تتفاوت، وأعظمها هو الشِّرك، وأنَّ المعاصي لا تُسمَّى شِركًا، وأنَّ مَن لم يُشْرِك بالله شيئًا فله الأمن وهو مُهْتدٍ- إن شاء الله- والله أعلم.

فوائد الحديث:

1- استنبط المازريُّ من الحديث جوازَ تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونازعَه القاضي عياضٌ، فقال: ليس في هذه القصَّة تكليفُ عمَل، بل تكليفُ اعتقادٍ بتصديق الخبَر، واعتقاد التَّصديق لازمٌ لأوَّل ورودِه، فما هي الحاجة؟

ويمكن أن يُقال: المعتقدات أيضًا تحتاج إلى البيان، فلمَّا أجمل الظُّلم حتَّى تناوَلَ إطلاقُه جميعَ المعاصي، شقَّ عليهم، حتَّى ورَدَ البيانُ، فما انتَفَت الحاجة.

قال ابن حجر: الحقُّ أنَّ في القصة تأخيرَ البيان عن وقت الخِطَاب؛ لأنَّهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخَّرْ قولُه: {ولَم يلبسوا}؛ أي: لَم يخلطوا؛ تقول: لَبَسْت الأمر بالتخفيف، ألبِسُه بالفتح في الماضي، والكسر في المستقبل؛ أيْ: خلَطْته، وتقول: لَبِست الثوب ألبَسُه، بالكسر في الماضي، والفتح في المستقبل.

2- ويؤخذ من الحديث أيضًا أنَّ الحمل يكون على العموم حتَّى يَرِدَ دليلُ الخصوص.

3- وأنَّ النَّكرة في سياق النفي تعمُّ.

4- وأن الخاصَّ يَقْضي على العام، والمُبَيَّن على المُجْمَل.

5- وأنَّ اللفظ يحمل على خلاف ظاهره؛ لمصلحة دفع التَّعارض [3].

6- يؤخذ من الحديث أن الظُّلم أنواع، منها: الشِّرك، وهو أعظمه، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ومنها ظُلم عباد الله، وهو الإفلاس بين يدَي الله، والمصير إلى عذاب الله تعالى، ومنها ظلم المرء نفسه، وهو الحيرة يوم القيامة، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ الظُّلم ظلمات يوم القيامة» [4].

7- فيه أنَّ تَمام الإيمان بالعمل، وأنَّ المعاصي يَنْقص بها الإيمان، ولا يَخرج صاحِبُها إلى الكفر، والنَّاس مختلفون في ذلك على قدر صغر المعاصي وكِبَرها.

8- فيه أن المُفَسَّر يَقْضي على المجمل، بخلاف قول أهل الظَّاهر، ألاَ ترى أنَّ أصحاب النبيِّ تأوَّلوا قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] على جميع أنواع الظُّلم، فبيَّن الله أنَّ مراده بذلك الظلم الشِّرك خاصَّة بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، فوجبَ بهذا حكم المفسر على المجمل، وهذا قول الجمهور، وقد احتج بهذا الحديث من قال: إن الكلام حكمه العموم، حتَّى يأتي دليل الخصوص [5].

9- وفيه أنَّ الشِّرك أكبر الكبائر، كما جاء في حديث أبي بكرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أكبر الكبائر: الإشراكُ بالله، وعقوق الوالِدَين، وشهادة الزُّور...»؛ الحديث [6].

10- ولا عقوبة أعظم من عقوبة الشِّرك في الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّ الخلود الأبديَّ في النار لا يكون في ذنبٍ غير الشِّرك بالله تعالى، ولا يحبط الإيمانَ غيرُه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وإنَّما سَمَّى الله الشِّرك ظلمًا؛ لأنَّ الظُّلم عند العرب وضعُ الشيء في غير موضعه؛ لأنَّه كان يجب عليه الاعترافُ بالعبوديَّة، والإقرار بالرُّبوبية لله تعالى حين أخرجَه من العدم إلى الوجود، وخلَقَه من قبل ولم يَكُ شيئًا، ومنَّ عليه بالإسلام والصِّحة والرِّزق، إلى سائر نِعَمِه التي لا تُحصى [7].

11- فيه التَّحذيرُ من الظُّلم، والحثُّ على ضدِّه، وهو العدل، والشريعة كلُّها عَدْل، آمِرةٌ بالعدل، ناهيةٌ عن الظُّلم؛ لأنَّ الإيمان أصوله وفروعه، باطنه وظاهره كله عدلٌ، وضده ظُلم، فأعدَلُ العدل وأصله: الاعترافُ وإخلاص التوحيد لله، والإيمان بصِفاته وأسمائه الحُسْنى، وإخلاص الدِّين والعبادة له، وأعظم الظُّلم، وأشده الشِّرك بالله [8].

12- فيه دليل على أنَّ الظلم أنواع: نوعٌ لا يغفره الله، وهو الشِّرك بالله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].

ونوعٌ لا يَترك الله منه شيئًا، وهو ظلم العباد بعضهم لبعض، فمِن كمال عدله: أن يقصَّ الخلق بعضهم من بعض بِقَدْر مَظالمِهم.

ونوع تحت مشيئة الله: إنْ شاء عاقب عليه، وإن شاء عَفا عن أهله، وهو الذُّنوب التي بين العباد وبين ربِّهم فيما دون الشِّرك [9].

13- فيه تحريم الظُّلم، وذلك متَّفَقٌ عليه في كلِّ ملَّة؛ لاتِّفاق سائر المِلَل على مُراعاة حفظ النَّفس والأنساب والأعراض والعقول والأموال، والظُّلم يقع في هذه أو بعضها، وأعظم الظُّلم الشِّرك، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] [10].

14- وسُمِّي الشِّرك ظلمًا؛ لأنَّ أصل الظلم: هو وَضْع الشيء في غير موضعه، ومَن أشرك فقد وضع الرُّبوبية في غير موضعها، وهو أعظم الظُّلم [11].

15- لما كان الظُّلم مُفْضِيًا بصاحبه إلى الضلال الذي هو ضد الهدى؛ كان جديرًا بالتشبيه بالظُّلمة كما في ضده من تشبيه الهداية بالنُّور، أو فلا يهتدي في القيامة بسببه وغيره، ولا يكون من المؤمنين الذين يسعى نورُهم بين يديهم [12].

16- ويقول السعديُّ عند قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]:

ووجه كونه ظلمًا عظيمًا: أنَّه لا أفظعَ ولا أبشع مِمَّن سوَّى المخلوق من ترابٍ، بمالك الرِّقاب، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئًا، بمالك الأمر كلِّه.

وسوَّى الناقصَ الفقيرَ من جميع الوجوه، بالربِّ الكامل الغنيِّ من جميع الوجوه، وسوَّى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرَّة من النِّعَم، بالذي ما بالخلق من نعمةٍ- في دينهم، ودنياهم، وأخراهم، وقلوبهم، وأبدانهم- إلاَّ منه، ولا يَصْرف السُّوء إلا هو، فهَل أعظمُ من هذا الظُّلم شيء؟  [13].

17- ومن أعظمِ الاعتداء والعدوان والذُّل والهوان: أن يُدعَى غيرُ الله؛ فإنَّ ذلك من الشِّرك، والله لا يَغفر أن يُشرَك به، وإن الشِّرك لظلم عظيم [14].

18- فيه أنَّ حقيقة الشِّرك هو التشبُّه بالخالق والتشبيه للمخلوق به هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، ووصفَه بها رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فعكس من نكَّس الله قلبه، وأعمى عينَ بصيرته، وأركسَه بلبسه الأمر، وجعل التَّوحيد تشبيهًا، والتشبيه تعظيمًا وطاعة، فالمُشرِك مشبِّه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهيَّة، فإنَّ من خصائص الإلهية التفرُّد بملك الضرِّ والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدُّعاء والخوف والرجاء والتوكُّل به وحده، فمن علَّق ذلك بمخلوقٍ فقد شبَّهه بالخالق [15].

19- فيه دليلٌ على حكمة لقمانَ العميقة التي أكرمَه الله تعالى وخصَّه بها؛ حيث جعلَ رأسَ موعظتِهِ تحذيرَ ابنه من الشِّرك.

هذا، والله تعالى أعلمُ وأحكم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.

--------------------------

[1] شرح صحيح مسلم للنووي (2/ 144)، وجامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير (2/ 134) بتحقيق الشيخ عبدالقادر الأرناءوط.

[2] مناهج المحدثين للدكتور ياسر الشمالي (ص/ 166- 167) بتصرف يسير، ط- الثانية: 2003م.

[3] فتح الباري لابن حجر (1/ 88 وما بعدها) و(12/ 276).

[4] بحر الفوائد للكلاباذي (ص/ 177).

[5] شرح ابن بطال لصحيح البخاري (1/ 73).

[6] نفس المصدر.

[7] المصدر السابق (16/ 116).

[8] فيض القدير للمناوي (4/ 390)، وبهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ص/ 69).

[9] المصدر السابق (ص/ 71- 72).

[10] فيض القدير للمناوي (1/ 174)، والتحفة الربانيَّة شرح الأربعين حديثًا النووية للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري (2/ 25).

[11] فتح الباري لابن رجب (1/ 73)، وشرح السُّنة للبغوي (1/ 180)

[12] فيض القدير للمناوي (1/ 174).

[13] نقلًا من: نواقض الإيمان القوليَّة والعملية للدكتور عبدالعزيز بن محمد بن علي بن العبداللطيف (ص/ 137).

[14] المصدر السابق (ص/ 143).

[15] نواقض الإيمان القولية والعملية للدكتور عبدالعزيز بن محمد بن علي بن العبداللطيف (ص/ 148).

الكاتب: أبو حميد عبدالملك بن ظافر الماجوني الكوسوفي.

المصدر: موقع الألوكة.